أوطان بوست – رأي
لقد استعجل بعضهم انقضاء الربيع العربي وإدخاله في الخريف مستظهرين كل أشكال الدعم لذلك ، ومرتكبين كل أنواع الموبقات ، ومستعملين كل إمكانياتهم وتراكماتها لتحقيق ذلك ؛ لكن إصرارا منقطع النظير وغير قابل للفهم و الاستيعاب يتبدى أمامهم ، وتصميما واضحا يتجاوز الآلام ويعبر فوق القهر يواجههم وإجرامهم وتوحشهم .
وتبقى الثورة السورية نموذجا متقدما في الربيع العربي و ملهما لمن يريد اللحاق به في تخطي الصعاب وتحدي كل الأطر والممنوعات .
وفي حمأة السعي والتراكض المحموم نحو اقتسام أرض سورية وثرواتها والتلاعب بحقوق شعبها تأتي هذه الإضاءة بوعي كامل أن هؤلاء يحفرون خندق فشلهم وأن كلامهم عن مناصرتهم للشعب السوري وحقوقه وقضاياه و حرصهم على وحدة أرضه محض كذب وخداع مكشوف ومفضوح .
يجهد الإقليمي والدولي أنفسهم على فتح مزيد من المعارك على أرض سورية منذ سنوات لمنع الثورة عن التموضع الذي تريده والقرار شبه المعلن بل المعلن بأنهم لن يسمحوا للشعب أن يحرز انتصارا حقيقيا لأن ذلك يشكل قاطرة للتغيير الإنساني محليا وإقليميا ودوليا .
وما يجب أن نعيه تمام الوعي وأن نعمل على أساسه بكل جد ومسؤولية أننا في واد وهم في واد آخر ، وأن ما أردناه يتناقض مع ما يريدون ، وأن ما بذرناه في سورية ومحيطها يختلف عما زرعوه وسقوه ونموه بكل إمكانياتهم طيلة عقود .
إن الحقوق التي تسعى الثورة السورية إلى تحقيقها وتثبيتها على أرضها تؤهلها لقيادة المنطقة وتجعلها قادرة على إرساء قواعد جديدة ومنظومة علاقات لا تشبه ما سبقها البتة .
وليس هذا من باب الأماني أو التفكير الرغائبي أو اجتراح الغيب إنما هو من عمق معرفة أوهام الدولة الوطنية الناشئة عقب الحرب العالمية الثانية وجرائمها و فسادها ودورها الخانع و تنكرها لتاريخ المنطقة وحضارتها . ومن عمق إدراك التوحش الأميركي الليبرالي المتحكم بالفدرالي وصندوق النقد والبنك الدوليين والأمم المتحدة . ومن صميم وعي الشعب بقوته وقدرته على إنهاء عهد الخنوع و الخضوع والقهر و الذل والفقر والعنف وإقامة العدل ورفع لواء الكرامة الإنسانية .
يتساءل بعضهم : إن الثورة السورية لم تستطع أن تفرز قيادتها الحقيقية خلال تسعة سنوات فكيف لها أن تقود المنطقة ؟!
يعتبر السؤال جزءا من الإجابة حيث إن كل من حاول أن يكون من القيادة أو ساهم في تشكيل هذه القيادة أو طالب بها أو أدرك أهميتها قد غاب عنهم قوة تأثير الثورة السورية وحجم تغييرها في المحيط الإقليمي وشبكة علاقاته وانعكاس ذلك على النظام الدولي برمته .
وما زال كثيرون يستغربون أو يستنكرون اجتماع الإقليمي والدولي على توافقات واتفاقات مرحلية تعطي ظهرها للشعب السوري و حقوقه و تستهين بحرمة دمائه وعرضه وأرضه و تتخذ منه ورقة مقايضة .
ولا تدرك تلك الكثرة أن هذه الدول وانطلاقا من دفاعها عن وجودها ومصالحها ووفق التركيبة التي دفعت بها إلى سدة الحكم أمام خيار وحيد في ألا تجاري الثورة السورية وألا تشكل ظهيرا حقيقيا لها وألا تدعم ما قامت من أجله إلا إذا أرادت إحدى هذه الدول أن تتخلص من عبء الأميركي وطريقة تفاعله وتحركه ، وأن تشارك في الربيع العربي وأن تدفع شعبها إلى معترك التغيير الحقيقي الذي يقتضي أن يأتي إلى السلطة بطبقة مختلفة كليا عن القائمين . ولا أعتقد أن بنية هذه الدول تساعدها على اتخاذ قرارات مصيرية بهذا الحجم والمستوى .
وباعتبار أن الأحزاب السياسية على اختلاف توجهاتها غير مؤهلة لالتقاط هذه المعاني فضلا عن قدرتها على القيام بخطوات جريئة منسجمة مع الربيع فقد شكلت انتكاسة له أخرت حصاده قليلا .
وفيما يرتبط بالثورة السورية تحديدا ابتلعت هذه الأحزاب الطعم الدولي الذي أوهمهم بأن هناك مجموعة أصدقاء للشعب السوري وأخرى أعداء له ، وقد تلاعب بها وبالثورة السورية .
واختار أفراد كثر من خارج الأحزاب وكل له أسبابه – غير المبررة – الانحياز إلى عاصمة والجلوس على مائدة جهازها المخابراتي ، وأصبحت تصريحاته وسلوكياته تنسجم بأغلبها مع هوى هذا الجهاز ودوره . وما الهياكل القائمة إلا هؤلاء الأفراد وتلك الأحزاب .
ويخطئ خطأ فادحا بحق نفسه قبل ثورته من يعتقد أن هؤلاء أو الذين يدورون في فلكهم أو الذين يعملون معهم أو الذين يؤمنون أو يرحبون بوجودهم قادرون على صناعة القيادة المطلوبة أو تشكيلها .
وهذا لا يعني انتفاء أدوارهم في مناحي معينة فالكلام حول قدرتهم وصلاحيتهم واستعدادهم للمشاركة في القيادة أو الإسهام في تشكيلها .
لقد أظهرت الثورة السورية فيما أظهرته وأثبتت فيما أثبتته عوار دول المنطقة بما فيها الكيان الصهيوني وخواءها وخواء سواها من الدول وأن استعلاء هذه الدول على الاعتراف بحقيقة هذه التغيرات التي حملها العنوان العميق والنداء الدقيق الذي دوت به جماهير الربيع العربي حينما صرخت : ” الشعب يريد ” ، وإصرارها على تجاوزه عداء أو استخفافا أو اضطرارا – حسب زعم بعضهم – واقتناعها بمتابعة تحركاتها السياسية و العسكرية وفق منظومة العلاقات الإقليمية والدولية نفسها السابقة للربيع العربي وخصوصا النسخة السورية العظيمة سيزيد من مشكلاتها الداخلية ، وسيدخلها في حلبة التغيير رغما عنها ، وسيلحقها بالربيع العربي بضريبة أقسى .
ولا أعتقد ان دولة من هذه الدول ستعترف طواعية بالإرادة الشعبيةالعربية لأسباب كثيرة إحداها : أنها لا تريد الخروج من إطار القيادة الأمريكية ، وثانيها : أنها أقل بكثير من سقف الثورة السورية .
ولا يوجد إقليمي رابح وإقليمي خاسر ، بل هناك إقليمي خاسر وآخر أكثر خسارة ، وهناك من يوهم نفسه وشعبه والآخرين أنه يربح ، وهناك من يحاول أن يقلل من خسائره ويؤجلها بعض الوقت .
إن أخطر فكرة سياسية في هذه المرحلة أن يؤمن بعضنا أن هناك زعامة في منطقتنا لفرد أو حزب أو جماعة أو هيئة أو تيار أو حركة أو حكومة أو دولة .
الزعامة الحقيقية هي فقط للشعب الثائر بأطفاله ونسائه ومعتقليه ومشرديه و مهاجريه الذين يصرون على متابعة الطريق في وجه الاستبداد والطغيان المحلي وداعميه إقليميا ودوليا حتى إسقاطه وإقامة العدل .
والمعادلة بعد الربيع العربي بقيادة الثورة السورية تقوم على شقين :
شق اسمه الشعب وآخر اسمه الحكومات .
الأول يريد الإسقاط والإقامة والاستعادة والبناء والحرية والكرامة .
والثاني يعاند هذه الإرادة ويقاومها ويقتلها ويهجرها ويخدعها ويتلاعب بمصيرها ويسجنها ويضيق عليها ولا يستطيع أن يناصرها ولا يجرؤ أن يقول لها الحقيقة .
الأول لا يأبه بأي قوة تحول بينه وبين سيادته على قراراته وثرواته وأرضه .
والثاني رضي أن يخضع للأميركي كليا أو كثيرا عن رضى وطواعية أو رهبة وخوفا فيقبلون بعقوباتهم وشروطهم إملاءاتهم وإهاناتهم ويهابون قوتهم ، وإن أسوء هذه الحكومات التي تدعي حريتها وسيادتها أمام الأميركي .
ليس هذا مدحا للشعوب وليس انتقاصا أو ذما للحكومات وتحقيرا من شأنها ، إنما هو توصيف بغض النظر عن الاستحقاق والاستثناء.
وإذا أردنا أن نقصر الطريق على أنفسنا ونختصر الزمن ونقلل من خسائرنا فلا مناص من هذا التوصيف وإدراكه وتعميمه والعمل بمقتضاه بعيدا عن رضى وغضب كل الأجراء المحليين والإقليمين ومشغلهم الأميركي .
بقلم: محمد سعيد سلام