شريك في قتـ.ـل وطن

شريك في قتـ.ـل وطن
خاص أوطان بوست – أحمد إسماعيل عاصي
لم أعد متأكدا إن كنت في حالتي الطبيعية أم أنني خرجت عن السيطرة، كنت أحاول أن استرجع المواقف المؤلمة التي مرّت بي منذ تسعة أعوام.
لكنني عجزت عن أي شيء منها، حاولت جاهدا أن أركز تفكيري، يجب أن أتـ.ـألم قليلا.
أيعقل أنني عشّت الأعوام الأخيرة في سورية ولم أتمكن من استرجاع موقف واحد يشعرني بالحزن والأسى.

كنت أحاول تفسير الأحداث التي أطالعها في الأشهر الأخيرة لكنني عجزت، لم يعني لي شيء سقوط حلب وحماة والغوطة وحمص ودرعا وأكثر من نصف إدلب.
إقرأ أيضاً: ما حقيقة مشاهد مسلسل “عائلة سمبسون” والتي تحاكي انفجـ.ـار مرفأ بيروت في لبنان (فيديو)
ولا نزوح ملايين المدنيين ولا المـ.ـذابح الكيماوية التي وقعت على مسمع العالم ومرآه، فكرت أنني الآن سأصبح إنسانا مميزا فلم يعد لزاما عليّ حمل أوجاع الناس وآلامهم.
لماذا يفترض بي أن أعرف كل تفاصيل الألم والعـ.ـذاب الممتدة من صنعاء إلى بنغازي؟
ولماذا عليّ أن أطالع صور الأطفال وهم قتـ.ـلى وأذرف الدموع عليهم إن كنت الآن خارج دائرة الحدث، وفي مكان أشعر فيه بشيء من الأمن والأمان؟
لماذا يُطلب مني أن أدعو والدمع يملأ عيوني والألم يعتصر قلبي؟
ألا أستحق أن أحيا بعيدا عن تلك الكوابيس التي يصـ.ـعب على المرء التأكد من حقيقتها على الرغم من أنها واقع يعيشه أكثر من خمسة عشر مليون سوري.
إقرأ أيضاً: بالفيديو .. هذا ما حدث داخل مبني BBC في لبنان وقت الانفـ.ـجار أثناء مقابلة مباشرة على الهواء
راودتني هذه المشاهد دفعة واحدة وأنا ملق على الأعشاب في ظلّ شجرة بإحدى الحدائق المنزوية على الطريق المؤدي إلى خارج إحدى المدن التركية.
وكنت كلما تغلّبتُ على الحالة التي أنا فيها أتذكر جيداً أن البطولة والثّبات ليس بالضرورة أن تكلل بالنّصر، ربما كنت أواسي نفسي لا أكثر ولا أقل، ولكنني في الحقيقة كنتُ أحفظُ التّفاصيل كلّها التي مررت بها ومرّت بي.
كنت شاهداً على جـ.ـرائم كثيرة تحصل في بلد حكم عليه بالحـ.ـرق لأنه قرر أن ينتـ.ـفض بوجه الظـ.ـلم ويثور بوجه الجلاد.
ولكنني بالرغم من ذلك كنت أصم سمعي عن استغاثات النّساء اللواتي يغتصـ.ـبن وعن بكاء الأطفال الذين دفنوا أحياءً تحت الرّكام.
إقرأ أيضاً: موسكو تدعو لتأجيل اجتماع اللجنة الدستورية بحجة “كورونا” .. ويحيى العريضي كلكم مجـ.ـرمون بحق شعب أعزل
وعن أنين الجـ.ـرحى الذين زرعوا في شوارع المدينة لأنهم لم يجدوا من يسعفهم أو يوقف المـ.ـذبحة التي فُرضت عليهم، أيُّ قدرٍ هذا وأيُّ بلدٍ هذا وأيُّ دينٍ هذا.
أنا نفسي الذي تكلمت عن نصرة الدين وخدمة الشّعب وإنصاف المظلومين نسفّتُ كلّ ما يحصل في هدنةٍ واحدة وربما كنت أعلم أن مصيري ذات المصير الذي ينتظره كل الأشخاص الذين ساومت عليهم.
لكنني كنت أواسي نفسي للمرة المليون وأتأسى بالعالم مجتمعا، فلطالما أنني ضحـ.ـية تشارك الجميع عليها فلماذا لا أفتدي نفسي بكل من حولي.
أنا نفسي مثلتُ هذا الشعب المسكين في كلّ المحافل الدولية، وحملتُ آلافَ الملفات بأسماء اللصوص والتجار والسماسرة الذين عبّوا من خيرات بلادي لسنوات وسنوات وسرقوا كلّ جميلٍ فيها انهرت أمام حفنة دولارات وأصبحت ألعوبة في أكفّ اللاعبين.
إقرأ أيضاً: صحيفة: النفط السوري يُنهب وهذا ما تريده أمريكا .. وعلى تركيا استخراج العبر مما يحدث في سوريا
أنا نفسي ظهرتُ على آلاف الشاشات لأنقل مأسـ.ـاة لم يسجل التاريخ لها مثيلا، وإذا بي حالة عصية عن الفهم أختزل أعظم القضايا وأقدسها بعشرات المتابعين والمعجبين على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي.
أنا نفسي كنت أخطبُ جموع المتظاهرين، وأقول لهم أننا بلد واحد وأن ربنا واحد وديننا واحد ومصيرنا واحد!!
أنا نفسي كنت أتكلم عن الفضائل التي لا سبيل لنا بالخلاص إلا بها، وإذا ما انهيت الخطاب اقترفت كل الكـ.ـبائر دفعة واحدة.
كنتُ شاهداً بنفسي على ما يحصل في بلادي من درعا إلى حلب، ومن القامشلي إلى اللاذقية، وكنتُ أخطب كلّ يومٍ ألفَ مرّة بالجنود الذين نسوا السبب الذي صاروا به جنوداً.
كنتُ أحدّثهم عن إقامة الحدود، وقطـ.ـع يدّ السارق وجلـ.ـد الزّاني وصلب قاطع الطريق في نفس الوقت الذي كانت تُصلبُ فيه عشرات المدن السورية وتُسحق وتستـ.ـباح وتنتـ.ـهك والجميع يصم السمع عنها ويصغي إلى كلماتي.
كنتُ اسأل نفسي من أين حفظت كل هذه العبارات، وما الذي تعنيه كل تلك الجمل وكيف استطعت تقمص كل هذه الأدوار وتمثيل كل تلك المواقف.
إقرأ أيضاً: تسجيل صوتي مسرب لحوار بين وليد المعلم ورفيق الحريري قبل أيام من صدور الحكم في قضية اغتـ.ـياله
لكننّي ما كنت أملك الوقت الكافي لأتميّز حقيقة ما أقول وأفعل، فأنا لم أكن عالماً من قبل بل وكان الدين في بلدي تهمة يُقتـ.ـل الناس ويصلبون عليها.
ولم أكن رجل سياسة من قبل فالسياسة أمر محدث لا شأن لي فيه، ولم أكن قائدا فشغل الإنسان في سوريا كان منصبا على تحصيل قوت يومه.
أنا الآن أقف وجهاً إلى وجه مع نفسي، واسترجع كل آثامي القديمة، فإياكم أن تشتموني أو تتهموني أو تتنكروا لي، أنا واحد منكم بل أنا نسخة طبق الأصل عنكم كلكم.
تجتمع في صوتي نبراتكم جميعاً، وفي عيوني لمحة عن كل واحد منكم وفي رأسي تعشعشون فرادى وجماعات، لن تعرفوني عندما أكون حكيماً في تقييم الآخرين.
إقرأ أيضاً: إيدي كوهين يكشف أسباب تأخر سقوط الأسد ويحذر السوريين من رياض حجاب .. وناشطون يردون هذه شهادة حسن سيرة
وعندما أكون مثالا للوطنية والرحمة، ستعرفونني جيداً عندما يُطلب مني أن أعود إلى حقيقتي وأرجع إلى حجمي الصحيح.
أنا وأنتم شركاء بكل الجـ.ـرائم التي كنا قادرين على أن نمنـ.ـع وقوعها، نحن من شمتنا بأنفسنا واستهنا بعظمتنا.
نحن من زهدنا بتضحـ.ـياتنا التي عجز العالم كله عنها، نحن الذين استصغرنا أمر بعضنا نحن الذين فعلنا وفعلنا وفعلنا.
والآن عندما أرى العلم الذي كفنّا به أحزاننا واسترجع الهتافات التي انطلقت بها ثورتنا الآن عندما اسمع عويل النساء والأطفال يحـ.ـرقون فيما بقي من وطننا.
الآن عندما أطالع بلدا منثورا على آلاف المخيمات وأرانا موزعين على قوائم الموت والتشرد واللجوء والفاقة والفـ.ـاجعة والتسول أتذكركم جميعاً وأتذكر أني كنت شريكاً في قتـ.ـل وطن.
خاص أوطان بوست
تفصل بمتابعتنا على منصة أخبار جوجل نيوز من هنا، وقناة أوطان بوست على التيلجرام من هنا