أوطان بوست – رأي – أسامة عثمان
نشأت الدولة العربية القُطْريَّة نشوءًا غيرَ طبيعي، بعد حصولها على استقلال غير مكتمل، إثر انتهاء فترة الاستعمار العسكري، دون الانعتاق التام من التبعيَّة بأشكال أخرى.
ولم تنجح النُّظم العربية التي استولت على الحكم بانقلابات عسكرية في نسج علاقة حقيقية مع شعوبها؛ ما أفقدها السّنَدَ الطبيعيَّ، أمام المخاطر والتهديدات والابتزازات الخارجية.
وتاليًا السودان، مثالًا على هذه الحالة المأزومة والخطِرة، وهي المتمظهرة، هذه المرّة، في الرئيس المعزول، عمر حسن البشير، عندما صرَّح فيصل صالح وزير الإعلام السوداني الناطق الرسمي باسم الحكومة بأن كلَّ الاحتمالات واردة، بشأن كيفية محاكمة البشير، وباقي المطلوبين، لدى المحكمة الجنائية الدولية بتُهَمِ جرائم الحرب في دارفور.
هذا الموقف يشي بالحالة السودانية، ولا نغالي، لو قلنا: إنها ليست حالة سودانية بقدر ما هي عربية، أيضًا، إذ تفشل الدولة في تجسيد سيادتها، وفي احتواء أزماتها.
عاشت السودان في عهد الرئيس المخلوع عمر حسن البشير الذي قاد انقلابًا (سنة 1989) على حكومة الصادق المهدي المنتخبة، ظروفًا بالغة القساوة والإيلام، ولم يكن ذلك يغيب عن زائر السودان.
وتتضح تفاصيلُه لمن أقام فيه فترة، سمحت له بتكوين صورة أشمل، وأقرب عن هذا البلد العربي الجميل، بأهله، وطبيعته، والمعروف بتنوُّع ثرواته، وغناها.
إقرأ أيضاً: مسؤول أمريكي: واشنطن تتعهد بتحقيق مطالب أنقرة في إدلب بشرط واحد
أثناء دراستي في الخرطوم العاصمة، 2004/ 2005 مرّت بي، عِيانًا، مشاهدُ من تلك الصورة؛ مثلًا: قوَّات أمن نظام الإنقاذ، وهي تبطش بامرأة مسكينة تحاول كسب قوَّتها وعيالها ببيع ما تيسَّر لها.
وكنت أرى غير قليل من (الشَّمَّاسة) (الظاهرة التي تعرف باسم أولاد الشوارع) يتمدَّدون في عزِّ القيظ، على أرصفة الطرقات، التراب فراشهم، والسماء غطاؤهم، يقاربون حدود الموت، أو يموتون فيستدل على موتهم، بظهور النمل الذي يتكاثر على أجسادهم، بما يمثلونه من ضحايا الفقر، أو الإفقار الخارج عن السيطرة، وبما يعنيه ذلك من بيئة خصبة للجريمة.
ورأيت امرأة تقع على الأرض أمام ناظِري من الجوع، في حين كانت عائلات كثيرة تشتري ماء الفول المغلي، ليصنعوا به مع الخبز، الفَتيت، وبعض العائلات التي كانت تُعَدُّ أحسن حالًا من سابقاتها.
كانت تشتري لوازم الطبخة بالملعقة، بضع ملاعق من ربِّ البندورة، وملعقتين من الزيت.
وكنت أرى الشبَّان اليافعين، يفرّون، ويلقون ما يحملونه ما يبيعونه من ألبسة خفيفة؛ خوفًا من الجزاء القاسي من رجال الشرطة المختصة بذلك، وكنت أسمع عن محاكمات لأطفال، كلُّ جريمتهم هو بيعهم الماء، دون ترخيص من الدولة.
هذا فضلًا عن الترويع الذي كان النظام يواجه به عموم السودانيين، والشباب تحديدا، كلما خشي تحرُّكات ضدَّه من أحزاب سودانية منافسة.
إقرأ أيضاً: إعلامي إسرائيلي: بشار الأسد سيخرج من الحكم إلى الأبد والإعلامي فيصل القاسم يعلق
لكنني كنت أغبط السودانيين على تلك الحيوية السياسية والفكرية التي لم تَخْبُ جذوتُها، في أيِّ مناسبة؛ من ندوة سياسية، أو حتى معرض للكتاب؛ نقاشات صادقة وطويلة، ومثقفة، يذهل الرجل السودانيُّ عن حاجيات اشتراها لعائلته؛ لينهمك في نقاش طويل حول مستقبل السودان السياسي، وهو يستشعر تلك المسؤولية السياسية والانتماء.
إذ لم تُنهِكهم الظروفُ المعيشية القاسية عن التطلُّعات الضرورية للتغير نحو الأفضل، ولم يزهدوا، كما زهدت شعوب عربية أخرى بالسياسة.
وبعد مضيِّ عقود من حكم البشير والإنقاذ في حكم السودان، وبعد أن فاض بالسودانيين الكيل، تتقدَّم المؤسَّسة العسكرية، ورفاقه المقرّبون، أو الذين كانوا كذلك، لاحتواء حراك السودانيين التوَّاقين إلى حكم أكثر نزاهة، وأقل استبدادا وتسلُّطا، ولكنهم، وفي أول بيان خرجوا به على الشعب.
لم يكلِّفوا أنفسهم إعادة النظر الجدية؛ فجاء البيان معبِّرا عن مقادير غير قليلة من الاستـ.ـهانة بوعي السودانيين، حين حمَّلوا البشير كلّ الخطايا، وكأن المؤسسة العسكرية التي كانت تدعمه، طوال سنينه الغابرة، كانت مغفَّلة، أو عاجزة.
إقرأ أيضاً: ترجيح أممي لمسؤولية نظام الأسد عن استهداف 3 منشآت صحية ومدرسة وملجأ أطفال
هذا وكانت البراغماتية الأمريكية بلغت مدى غير قليل، حين غضَّت الطرف عن البشير، ولم تلاحقه بجدية، عشيَّة اتهامه بجرائم حرب، والمطالبة بتسليمه لمحكمة الجنايات الدولية، بل قبلته ضمنيا، بعد أن مضى، من موقعه ذاك، يتعاون مع وكالة ” سي آي إيه” في مهمة أوكلها إلى رئيس الاستخبارات، والرقم الثاني في النظام، صلاح عبد الله غوش، كما فصّلت ذلك، مؤخَّرا صحيفة “ليبراسيون” الفرنسية.
ذلك ليستدعي، ودون عناء، التعاطي الأمريكي مع نظُمٍ عربية مشابهة، يشوبها الإجـ.رام، وتخيِّم على شرعيتها الكثيرُ من الأسئلة، من أمثال نظام بشار الأسد، وعبد الفتّاح السيسي.
إذ كفّت واشنطن عن المطالبة بإزاحة نظام الأسد، كما تعاطت بإيجابية مع نظام السيسي؛ لتكرِّس، بذلك، طريقةً في حُكْم الشعوب العربية، قائمة على الإكـ.راه.
ولتنحكم العلاقةُ بين الشعوب والحكام، بقدر كبير من الاحتقان، وضعـ.ـف الثقة التي تصل حدود القطيعة، وذلك يتناسب، (دون إقحام) مع تعاطيها مع القضية الفلسطينية والحقوق العربية المعتدى عليها.
ليُمْكِن في مثل هذه الأجواء الإكراهـ.ـية، وبمثل هؤلاء الحكام الضِّعاف؛ بسبب افتقادهم إلى السَّند الشعبي، ليُمْكِن ابتزازُهم، في أخطر القضايا والمراحل فيما تعدّ له، ممَّا يسمَّى بصفقة القرن.
ولعل في لقاء السيسي الذي سبَق إقدامه على تعديلات في دستور مصر بالرئيس الأمريكي ترامب، ما يؤكَّد هذه الخلاصة، إذ بدا السيسي حريصًا، وهو على أعتاب تغيير مجحفٍ بالدستور، يتيح له مدَّةً طويلة في الحكم، وصلاحياتٍ واسعة.
بدا حريصًا على استرضاء ترامب، ولم يخطر بباله- ولم يكن له ليخطر- أن يفاتح سيَّد البيت الأبيض باعترافه الأخير بضمِّ إسرائيل للجولان، ولا باعتراف ترامب بالقدس عاصمةً لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها.
وبدلًا من ذلك، كان السيسي سعيدًا جدًّا باللقاء، ووصف علاقاته بأمريكا بأنها غير مسبوقة، على التوازي مع وصف ترامب للسيسي بـ ” دكتاتوري المفضَّل”!
والسؤال؛ كيف ستؤول البلاد العربية المحكومة، منذ عقود بقبضة العسكر، بعد التغيُّرات العميقة والواسعة التي اعترت الشعوب العربية؟ وكيف ستتكيَّف؟ في طريق استحقاقات بناء الدولة والسيادة الحقيقية.
لا يظهر حتى اللحظة أن تكيُّف السلطات العسكرية يتجاوز الخطابات اللفظية، والمناورات الاحتوائية؛ إذ لبلوغ النظام السياسي المستوى الأدنى من الصحّة، مخاضاتٌ ينبغي أن تظل مصحوبة بالوعي والعمل السياسي الطويل النفس والمنظَّم، من أجل ترسيخ أعراف سياسية مجتمعية تفضي إلى بناء حكمٍ مؤسسي عادل خاضع للمساءلة، وبسلطات غير مطلقة.
خاص أوطان بوست – بقلم: أسامة عثمان
أسامة عثمان يكتب لـ ” أوطان بوست” كورونا، حين يكشف عيوب الساسة