رأي

الفرات يعود للجريان كل عام .. بقلم يونس العيسى

الفرات يعود للجريان كل عام .. بقلم يونس العيسى

أوطان بوست – رأي – يونس العيسى

ثمّة لحظات تجد فيها نفسك عاجز عن الكتابة، يحدث أن تكتب أمرا لتوصيف واقع، فنجد أن هذا الواقع فوق الوصف، تكتب ثم تمحو

لعلك تعثر على المصطلحات المناسبة في المكان المناسب، هذه اللحظات بطبيعة الحال لا تحدث لدى تحرير خبر صحفي أو كتابة مقال سياسي أو اجتماعي أو ما شابه.

هذه اللحظات تعتريني عندما أكون في حضرة الشهداء؟ فأسأل نفسي من أين ابدأ بالحديث وكل الطرق التي تؤدي إليهم جميلة، مزروعة بالشجاعة والإباء، وفيها الكثير الكثير من الحكايا التي لطالما بحثت عنها بشوق وشغف، لطالما

الفرات يعود للجريان كل عام .. بقلم يونس العيسى

 انتظرت أي تفصيل يدلني على شخصية هؤلاء الشهداء.

قد تمضي عشرات السنين، وتبقى تلك التفاصيل التي تدل عليهم حيّة في وجداننا تزرع فينا الكثير من الدروس والعبر. من منا لا يهتم بمعرفة المزيد عن شخصية الشهيد يوسف الجادر أبو فرات.

8 أعوام مرت على استشهاده في مدرسة المشاة في مواجهة جيش نظام الأسد الذي انشق عنه والتحق بصفوف الثوار الأحرار، ولا تزال ذكراه توقظ فينا الأمل بالنصر ونيل الحرية

وفي أجواء الذكرى الثامنة على استشهاده ، يتحدث رافده البكر أحمد يوسف الجادر  فيطول الكلام عن والده الذي تميز بشخصية قيادية، محبّبة، وامتلك رجاحة عقل وكاريزما وجاذبية قلّ نظيرها

وفي غمرة الحديث الذي استحضر فيه أحمد الجادر ذكريات تعود لأكثر من عشر سنوات مضت، حضر فيها طيف الشهيد أبو فرات الحنون الذي يحمل الطيبة والرأفة

والابن البار الهادئ والمتعلّق بوالده حتى الرمق الأخير، المخلص له، ابن الشهيد  المتماهي مع والده الشهيد، والذي أخذ منه الكثير من الصفات.

وفي محاولة جاهدة لاستعادة وجه وروح الشهيد وإجبار الذاكرة على أن تبذل جهدا أكبر في استعادة ذكراه، وإعادة إحيائه، وإعادة استنطاقه من جديد.

أبو الفرات، الضابط الذي شرب حرية وتغذى ثورة واستشهد وهو يعد السفينة للعبور لشاطئ الانتصار، نسترجع ذكراه في حديث خاص ولأول مرة من مدينة جرابلس مع نجله أحمد الجادر الذي كان ظل لوالده، يلازمه أينما حل، يقلد مشيته، طريقة كلامه، يردد حكاياته عن رفاق الثورة، يحفظ مقاطع ما ردد والده من أشعار مظفر النواب، وباح لي بسيرة بقيت حية لرجل بات اسمه ممهورا بلقب الشهيد.

عائدا بالذكريات إلى البدايات، من عام 2012 بالتحديد، حيث توفيت جدته وسافرت أمه واخوته لمدينة جرابلس، وبقي أحمد ملازما لأبيه في بيتهم بالمساكن العسكرية حيث يخدم والده بفوج دبابات بقرية سطامو الفاخورة احدى قرى محافظة اللاذقية

وحينها كانت المظاهرات ضد نظام الأسد قائمة في مدن الساحل السوري، بمناطق الحفة وجبلة وبانياس، ومع امتداد الحراك الثوري السلمي باتجاه مدينة الحفة طلب من الشهيد أبو فرات الذي كان ضابطا برتبة مقدم حينها، بالتوجه إلى مدينة الحفة لمواجهة المتظاهرين السلميين

وكان أحمد يشاهد بعينه المجردة تحميل الدبابات على ظهر حاملة الدبابات من سرايا الفوج باتجاه مدينة الحفة، ومن بينها دبابة والده التي فشلت المحاولات المتكررة بتحميلها على ظهر الحاملة مما أدى لإصابتها بعطل حال دون تلوث يد أبو فرات بدم المتظاهرين الأحرار

واتصل بأحمد يخبره بعدم ذهابه للحفة وبقاءه في مقره العسكري بالقرب من بيته الذي كان يأتي إليه بين الحين والآخر خلسة ولمدة قليلة يطئمن فيه على أحمد ويتحمم ويعود لفوجه الذي بحالة استنفار.

وتابع أحمد قائلا: كان جميع سكان المساكن العسكرية ورفاق أبي وزملاءه، على علم بمغادرة أمي وبقية أخوتي لمدينة جرابلس للقيام بواجب العزاء

واضاف أحمد، طلب مني والدي أن أشيع بين الجيران وأهالي المساكن ومعارفنا وأولاد الضباط عن عزمي ونيتي الذهاب لمدينة جرابلس لجلب العائلة إلى بيتنا في ريف اللاذقية، وعمل أحمد بوصية والده مع ابداء مخاوفه من سلوك الطريق إلى جرابلس.

وقبل أيام من قدومه إلى جرابلس، كان أحمد ورفاقه من ابناء الضباط على البحر في مدينة اللاذقية، وكان برفقتهم ابن العقيد “محمد بكار” الذي جاءه اتصال مفاجئ وقال لأحمد ومن معه أنا ذاهب لاستلام بضاعة جديدة من الألبسة

كونه يمتلك محل لبيعها، وعندما طلب منه أحمد ورفاقه إيصاله لمحله رفض بشدة، وتركهم على البحر وغادر.

وتفاجئ أحمد عند رجوعه من البحر قادما لبيت أهله بمساكن الضباط بخبر إنشقاق العقيد ” محمد بكار” عن جيش الأسد ومغادرته هو وجميع أفراد عائلته.

وكان من قبله قد انشق المساعد ” أبو فيضو”، وبانشقاق العقيد بكار شغل العقيد يوسف الجادر مكانه بقيادة فوج الدبابات، وتوجهت الأنظار نحوه خوفا من انشقاقه، ووضع تحت المراقبة الشديدة.

وبحس أبو فرات اليقظ، والذي طلب من ابنه إشاعة سفره لجلب أمه وأخوته من جرابلس، طلب من أحمد مغادرة بيتهم في مساكن الفاخورة والتوجه لجرابلس، وطلب منه أخذ ألبوم الصور الخاصة بالعائلة، ماعدا بعض الصور الخاصة به ومراحل خدمته العسكرية وتدرجه بسلم رتبها التي اخرجها أبو فرات من الألبوم واحتفظ بها لنفسه.

وصل أحمد لمدينته جرابلس قبل أن تتحرر بأيام على أيدي الجيش الحر

حيث كان أحمد على تنسيق تام مع والده عبر برنامج السكايب يخبره بكل مايحصل  في جرابلس التي غادرها من انشق من الشرطة وبقي فيها مفرزة للأمن العسكري،  وخوفا من استهداف المدينة من قبل طيران الأسد أو قدوم مؤازرة للأمن العسكري المحاصر في المدينة، غادر أحمد متجها لبلدة صرين، بينما بقي أهله في قرية الغندرية بريف جرابلس.

وقال أحمد: كنت أتحدث مع أبي عبر برنامج السكايب برموز كالتفاحة والموزة، وحمرا وخضرا، حتى حصل الهجوم على مقر الأمن القومي بدمشق بمطلع شهر تموز عام 2012 وقتل فيه عدد من ضباط الأسد بالإضافة لوزير دفاع جيش الأسد، قال أحمد بعثت رسالة لأبي بالحرف الواحد كتبت فيها” استوت الطبخة وبدنا ناكل” فرد عليه والده ” انا كمان جوعان وبدي أكل”.!

وبعد تلك الرسالة، انقطع تواصل أحمد مع والده لمدة مما اثار مخاوفهم عليه، ليتفاجئ أحمد وهو ببلدة صرين برقم غريب يتصل على هاتفه الساعة 1 ليلا ويقول له: أنا بأمان، وبعدها ينقطع الاتصال.

يوسف الجادر أبو فرات / صورة من الإنترنت

وحاول أحمد معاودة الاتصال على الرقم ولكن دون جدوى، ليعاود أبو فرات مرة اخرى الاتصال بأحمد ويخبره انه متواجد في مدينة الحفة وينوي الدخول عبر الحدود إلى تركيا، التي وصلها بعد أيام، وبقي مدة وجيزة هناك، ليعاود بعدها الدخول إلى سوريا عبر معبر باب السلامة.

وكما هو حال قلب وفكر الثائر على وطنه، توجه أبو فرات من باب السلامة باتجاه مدينة الباب  ليشارك اخوته الثوار في تحريرها، رافضا دعوة عائلته وأهله  بالقدوم لجرابلس للأطمئنان عليه بقوله: ” كما شارك ثوار مدينة الباب بتحرير مدينتي جرابلس علي رد الجميل ومشاركتهم بتحرير مدينتهم”، وبقي هناك لمدة أسبوع، وبعدها عاد لمدينة جرابلس وقص أبو فرات على اهله وذويه ومحبيه

عملية انشقاقه عن جيش الأسد، ومخاطرته بحياته والطرق التي سلكها، ووداعه الأخير لبيته في ريف اللاذقية.

انضم بعدها أبو فرات للواء التوحيد، وشارك بكل معارك تحرير مدينة حلب وريفها، واصيب بعدد من المعارك

وقال أحمد انه في احدى معارك حي صلاح الدين بمحافظة بحلب تحاصر اثناء اقتحام بناية في الحي يتواجد فيها عناصر من جيش الأسد، ونفذت ذخيرة مسدسه ولم يبقى معه سوى 3 طلقات، وبقي يقاوم حتى جاءته مؤازرة لنجدته.

وعن استشهاد والده قال أحمد، كنت حينها اعمل بتجهيز واكساء بيتنا بجرابلس، وتفاجئت بقدوم أقاربي واعمامي للسؤال عن أحوال والدي، فخرجت من البيت لأستفسر فعلمت باستشهاده وقدوم موكب تشييع جنازته إلى مسقط رأسه بجرابلس.

وروى لي أحمد يوسف الجادر نقلا عن شهود عيان حادثة استشهاد والده بمدرسة المشاة، وكيف كان حريصا على تحقيق النصر وعدم الاهتمام بالغنائم بقوله لرفاقه الثوار حينها:” لايصير فينا مثل ما صار بمعركة أحد، لا تلتهون بالغنائم، عدونا مازال أمامنا، سوريا كلها لنا، وليس همنا بارودة وسيارة”

وتابع أحمد قائلا: عندما وصل جثمان أبي لجرابلس، كانت جثته كاملة ولايوجد أي بتر أو فقدان للأعضاء أو حتى ثقوب بجسمه، بل كانت إصابته خلف إذنه اليمنى، مؤدية لنزيف دموي صبغ قميصه الأبيض وبدلته باللون الأحمر.

ويتابع أحمد مازال استشهادك يا أبي قائما بداخلي، وكأنك اليوم فارقتني.

واثناء  احتلال تنظيم داعش الإرهابي لمدينة جرابلس، هجر احمد مثل بقية الثوار من بلده، وبقي أهله في المدينة، واثناء رجوعه ليطمئن على أهله اعتقل لمدة 10 أيام

وبعد خروجه من السجن غادر لتركيا وسكن هو وعائلته ببيت خاله، وهذه زيارته الأولى لمدينته بعد تحريرها من تنظيم داعش، ونام لأول مرة فوق الثرى الذي يحضن جثمان والده الطاهر،

وشرب من ماء فراتها، مستذكرا ما كان والده يخطط له بعد تحرير مدرسة المشاة، التي كان قادرا من اليوم الأول على تحريرها،

ولكن أطال أبو فرات ذلك حتى يضمن إنشقاق أكبر عدد من جنود الأسد الذين كانوا متواجدين فيها،وكان يعد العدة بعدها لتحرير مطار حلب الدولي.

واردف أحمد قائلا على لسان والده الشهيد: “بشار الأسد كل ماطال مدة حكمه لمصلحتنا حتى تتغربل الناس الفاسدين والخائنين ونعرف الصالح والطالح، ونعرف مين معنا ومين ضدنا.

وحربنا بعد سقوط بشار اصعب واطول من حربنا وهو في الحكم”.

السطور السابقة كانت سيرة قصها ابن شهيد عن والده العذب والصافي كماء الفرات، والمنتمي لتراب بلده الممزوج بدمائه

الذي انضم لصفوف الأحرار الذين يقولون لا للطغيان، أبو فرات الشهيد الجُرح النظيف النازف فينا، الذي كان لسان حاله يقول خذي يابلادي مني ما شئتي، دمي وروحي  لكن أُتركي لنا من نحب آمنين.

رحل أبو فرات إلى الحقيقة وترك لنا عنوانه بخط كبير واضح للبصائر، شهيد !

ويبقى السؤال ماذا لو أنني قلت لكم: الشهيد أبو فرات سيعود هذا الأسبوع، فلا بد أنكم ستتهمونني بالجنون وستدهشون مما أقول، وربما تتساءلون بقدر من السخرية والتهكم

فكيف يمكن أن يعود هؤلاء الشهداء بعد أن انتقلوا للدار الآخرة؟

ولكن إن فكرتم قليلا، سيتأكد حدسكم ويكذب الخبر؛ لأن لا رجعة بعد الموت، إلا أن هذه الجملة، هي عنوان مجموعة قصصية للكاتب الجزائري الطاهر وطار.

كلما تمر الذكرى السنوية لاستشهاد أبو فرات يصبح من الضروري إسقاط هذا التساؤل فعلا، والتفكر عن ماهية الإجابات، فالإجابات إما أن تكون محكمة للواقع وإما استحضارا لصور مشابهة من الحاضر

لأننا علينا أن نخرج من عقدة الذنب التي نمر بها جراء ما حصل من تراجع ثوري أسس له الشهيد الذي سلك طريق الكفاح الثوري لمواجهة عدوان نظام الأسد، سار في مركب الشهداء طوعا وحبا وعشقا، هدفه أن ينال شعبه الحرية.

لكن إن عاد أبو فرات فوعدا، لن نتركه لن نتركه يرى إلا صور الشهداء الذين لا زالوا يرتقون سعيا لتحقيق هدفهم وهو إسقاط النظام وتحرير البلاد

ولن نسمعه إلا ما كان يردده: جرح صويحب بعطابه ما يلتم

لا تفرح ابدمنه لا يلگطاعي

صويحب من يموت المنجل يداعي

أحاه . شوسع جرحك ما يسده الثار

يصويحب . وحكَ الدم ودمك حار

من بعدك ، مناجل غيظ ايحصدن نار

شيل بيارغ الدم فوكَ يلساعي

صويحب من يموت المنجل يداعي.

مقالات ذات صلة