أسامة عثمان يكتب لــ “أوطان بوست” .. لبنان مثال للفساد العربيّ المستعصي
أوطان بوست – رأي – د. أسامة عثمان
لم يعد التحدّي الذي أضحى يواجه الشعوب العربية يكمن في نقص الوعي، بمقدار ما هو في استفحال النُّظم الفاسدة، وامتدادها إلى قاعدة من المستفيدين.
والذين أضحَوْا يرون أنفسهم في علاقة عضويَّة مع الحكّام الفاسدين، ولعل أوضح ما تتجلّى هذه التركيبة في العراق، ومِن قبله في لبنان.
ففي لحظة من لحظات الحقيقة المجزوءة، أعلن حسّان دياب رئيس الوزراء اللبناني، في خطاب استقالته، أنّ الفساد في لبنان أكبر من الدولة.
وقال إن فساد الطبقة الحاكمة المترسِّخة في البلاد خلق مأساة المرفأ، وأنّ “هذه الكارثة هي نتيجة الفساد المزمن، لطبقة سياسية تستخدم كلَّ حيلها القذرة لمنع التغيير الحقيقي”، مقرِّرًا الاستجابة لمطالب الناس؛ بإحداث تغيير حقيقي، بالعودة خطوة الى الوراء؛ للوقوف مع الشعب.
لا تبدو الحقيقة واضحة، نظريًّا، كما هي في لبنان، ولا يبدو الوصول إليها، واقعيًّا، أصعب ممَّا هو في لبنان، ذلك في التمايُز الحادّ بين الشعب الذي فاض به.
فلم يعد يطيق احتمال التغوّل عليه، وبين الطبقة الحاكمة التي لم تعد تملك من الدُّفوعات شيئًا، سوى تعميم التُّهَم التي تلاحقها، أو تعويمها، على الكلِّ السياسي.
هذا الكلُّ الذي كأنه في منطقها، كائنٌ هُلاميّ، لا يمكن القبض عليه، فضلا عن تفكيكه، والتخلُّص منه.
الجديد في خطاب دياب يكمن في اللهجة التي تنحاز إلى الشعب المظلوم والمنهَك، حتى حدود اليأس، لدى البعض، كما تجلَّى في المطالبة بعودة الاحتلال الفرنسي (!).
وحين يصدر هذا التوصيف من رجل في قمَّة الحكومة، والسلطة التنفيذية، فإنه يمنح (ولو أنه يحتمل دوافع التقرُّب من الشعب وامتصاص غضبه العارم) علامةً واضحة على سقوط الخطاب السياسي لهذه الطبقة السياسية التي أفلست تمامًا.
لا يحميها سوى اشتراكها في الفساد، وفي تحمّل أثقاله، فكأنهم في مواجهة شعار اللبنانيين: “كلُّن يعني كلُّن” يلوذون بشعار مُضْمَر:”ما حدا أحسن من حدا”.
ومع أن التفاعلات الشعبية الرافضة لكلِّ الطُّغمة الحاكمة، والمستاءة من المحاصصات الطائفية على حساب حياة اللبنانيين الحقيقية واليومية.
تحتاج إلى مزيد من التعمُّق؛ لتنفذ إلى تلك النَّواة الصُّلبة من المصالح و(المكتسبات) المتوارَثة والمَحميَّة بالقوة، وغير المكشوفة، من غطاء دولي؛ إذ لا إرادة دولية جادّة تطال هذه البنية، أو حتى تُسائِلها، بنيويًّا.
إلا أن بداية السقوط تكمن في سقوط الخطاب الذي تقوم عليه هذه الطبقة الحاكمة، سقوطًا نظريًّا، إذ لا أحد ينكر مسؤوليتها الكبرى عمَّا آلَ إليه لبنان.
وإن كان كلُّ فريق، يحاول أن يُعفي نفسه من أن يكون المسؤول الأكبر عنها، وسقوطًا عمليًّا، بعجزها عن حلِّ أزمات مستعصية.
ليس ابتداء من أزمة النفايات التي تراكمت في شوارع العاصمة بيروت، وليس انتهاء بأزمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار، وصولًا إلى معاناة نصف اللبنانيين تحت خط الفقر.
بالتوازي مع أزمات حيوية أخرى كانقطاع الكهرباء، ثم بالقاصمة، وهي انفجار المرفأ.
إنّ الأخطار الخارجية التي هدَّدت، أو التي لا تزال تهدِّد لبنان، من قبيل دولة الاحتلال، أو الجماعات الدموية المنفلتة، مثل داعش، لا تمثِّل الخطر الوحيد الذي يفتك بلبنان وأهله، فالتدمير الداخلي لا يقلّ خطورة، ولا تقل تداعيتها النفسية الجمعية أثرًا.
فلا معنى لمقاومة ضدَّ عدوٍّ خارجيٍّ بمجتمعٍ شديد الإنهاك والتآكُل، ولا معنى كبيرًا للاكتفاء بصدّ المخاطر الخارجية، مع السكوت، أو التسامُح مع المعاول الهدّامة في الداخل.
فجسم المقاومة ليس منفصلًا تمامًا عن الشعب الذي يتنفّس فيه، أو هكذا يُفترَض. إذا أرادت المقاومة أن يستمر احتضانُها شعبيًّا، والملحوظ أن حزب الله، الممثل الأكبر للمقاومة في لبنان.
أصبح أكثر ميلًا لمتطلّبات الصراعات الإقليمية، على حساب صيانة البيئة اللبنانية الحاضنة له، وربما هو يريد أن يصون أولوياته؛ من مهمة المقاومة.
أو الأدوار الخارجية، بالكفّ عن مصـ.ـارعة الفساد الداخلي، والنتيجة اتِّساع دائرة الفساد، وتغلغله في شرايين الدولة؛ حتى لا ضمانة، نظريًّا على الأقل، من تمدُّده، حتى يطال كلَّ الأجسام السياسية المنخرطة في المشهد اللبناني.
فلا يمكن الفصل بين الأخطار الخارجية والداخلية، حين تكون مفاعيلُها متشابهة. ويمكن للكيانات المتصدِّية للأخطار الخارجية أن تستمر في تلك معركتها.
دون كبير التفات إلى أزمات الداخل، فقط حين تكون تلك الأزمات ممَّا يمكن احتمالُه، أو حين يمكن الارتكان إلى كياناتٍ داخلية أخرى، تُظهر جهودُها في الإصلاح والترميم آثارًا واعدة.
فمجلس النواب، مثلا، والمفترض أنه الجهة الممثِّلة للشعب، والملاحِقة للحكومة؛ بالمحاسبة والمساءلة، لا يبدو بمعزِل من أدواء لبنان الطائفية، وتكفي فضيحة المرفأ لتثبت شكلانيَّة هذا المجلس، والتحامه، على نحو ما، بهيكل الفساد.
وليس من الواقعيّ، على المستوى الشعبي، أن نتوقّع تبخُّر المؤثرات والمخاوف الطائفية؛ إذ هي حصيلة أزمان من التفاعلات السياسويَّة.
ولم يترسّخ جسمٌ اجتماعيٌّ سياسيّ، في مستوى النِّدّية، بعد، مع أن الهزّات المتلاحقة تصبُّ في هذه الغاية.
وعلى الرغم من المُراكمات الكثيرة المطلوبة في العمل المنظَّم والمركَّز نحو تفكيك منظومة الفساد، إلا أنه من الممكن، والمفروض أن ينجح تيّار الوعي الحقوقي.
في الشعب اللبناني، العابر للطوائف، والأجيال، في تشكيل قوة مؤسَّسيَّة ضاغطة ومستمرّة، تعمل على كبح الفساد؛ لكي لا يذهب إلى مداه الأبعد والأخطر.
وأما الموقف الدولي فقد يجد نفسه مضطرا للتعامل مع هذه المتغيرات الشعبية والنخبوية، حين تفرض نفسها، مدعومة بإخفاق صريح ومدوٍّ لمنظومة الحكم الراهنة.
أسامة عثمان يكتب لـ ” أوطان بوست” كورونا، حين يكشف عيوب الساسة